الباب الثاني
الفصل الأول
إدعاء علم الغيب و قراءة الكف والفنجان وغيرهما
المراد بالغيب:
ما غاب عن الناس من الأمور المستقبلة والماضية وما لا يرونه، وقد اختص الله تعالى بعلمه، وقال تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله). (65 من سورة النمل)
فلا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وحده، وقد يطلع رسله على ما شاء من غيبه لحكمة ومصلحة، قال تعالى:(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) (26- 27 من سورة الجن)
أي لا يطلع على شيء من الغيب إلا من اصطفاه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب. لأنه يستدل على نبوته بالمعجزات التي منها الإخبار عن الغيب الذي يطلعه الله عليه. وهذا يعم الرسول الملكي والبشري ولا يطلع غيرهما لدليل الحصر. فمن ادعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه الله من رسله فهو كاذب كافر- سواء ادعى ذلك بواسطة قراءة الكف أو الفنجان أو الكهانة أو السحر أو التنجيم أو غير ذلك- وهذا الذي يحصل من بعض المشعوذين والدجالين من الأخبار من مكان الأشياء المفقودة والأشياء الغائبة. وعن أسباب بعض الأمراض، فيقولون فلان عمل لك كذا وكذا فمرضت بسببه، إنما هو لاستخدام الجن والشياطين، ويظهرون للناس أن هذا يحصل لهم عن طريق عمل هذه الأشياء من باب الخداع والتلبيس... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع. وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، إلى أن قال: ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة فواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع ومنهم من يطير به المجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيره. انتهى. انظر مجموعة التوحيد (797، 1 0 8).
وقد يكون إخبارهم عن ذلك عن طريق التنجيم- وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر وتغير الأسعار وغير ذلك منالأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها. ويقولون: من تزوج بنجم كذا وكذا حصل له كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا حصل له كذا، ومن ولد بنجم كذا وكذا حصل له كذا من السعود أو النحوس كما يعلن في بعض المجلات الساقطة من الخزعبلات حول البروج وما يجرى فيها من الحظوظ.
وقد يذهب بعض الجهال وضعاف الإيمان إلى هؤلاء المنجمين فيسألهم عن مستقبل حياته وما يجري عليه فيه وعن زواجه وغير ذلك. ومن ادعى علم الغيب أو صدق من يدعيه فهو مشرك كافر، لأنه يدعي مشاركة الله فيما هو من خصائصه. والنجوم مسخرة مخلوقة ليس لها من الأمر شيء ولا تدل على نحوس ولا سعود ولا موت ولا حياة. وإنما هذا كله من أعمال الشياطين الذين يسترقون السمع.
الفصل الثاني
السحر والكهانة والعرافة
كل هذه الأمور أعمال شيطانية محرمة. تخل بالعقيدة أو تناقضها لأنها لا تحصل إلابأمور شركية.
ا- فالسحر عبارة عما خفي ولطف سببه:
سمي سحرا لأنه يحصل بأمور خفية لا تدرك بالأبصار- وهو: عزائم ورقى وكلام يتكلم به وأدوية وتدخينات. وله حقيقة. ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه وتأثيره بإذن الله الكوني القدري- وهو عمل شيطاني- وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بما تحب والتوصل إلى استخدامها بالإشراك بها- ولهذا قرنه الشارع بالشرك حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هي؟ قال: الإشراك بالله والسحر" الحديث. فهو داخل في الشرك من ناحيتين:
الناحية الأولى: ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم والتقرب إليهم بما يحبونه ليقوموا بخدمة الساحر. فالسحر من تعليم الشياطين- قال تعالى:
(ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)
الثانية: ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك. وهذا كفر وضلال قال تعالى: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)أي نصيب وإذا كان كذلك فلا شك أنه كفر وشرك يناقض العقيدة ويجب قتل متعاطيه. كما فعل جماعة من أكابر الصحابة رضى الله عنهم- وقد تساهل الناس في شأن الساحر والسحر وربما عدوا ذلك فنا من الفنون التي يفتخرون بها ويمنحون أصحابها الجوائز والتشجيع. ويقيمون النوادي والحفلات والمسابقات للسحرة ويحضرها آلاف المتفرجين والمشجعين. وهذا من الجهل بالدين والتهاون بشأن العقيدة وتمكين للعابثين بها.
2ـ الكهانة والعرافة
وهما ادعاء علم الغيب ومعرفة الأمور الغائبة كالأخبار بما سيقع في الأرض وما سيحصل. وأين مكان الشيء المفقود. وذلك عن طريق استخدام الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء. كما قال تعالى:(هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) وذلك أن الشيطان يسترق الكلمة من كلام الملائكة فيلقيها في أذن الكاهن ويكذب الكاهن مع هذه الكلمة مائة كذبة فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة التي سمعت من السماء. والله المنفرد بعلم الغيب. فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك بكهانة أو غيرها أو صدق من يدعي ذلك فقد جعل لله شريكا فيما هو من خصائصه. والكهانة لا تخلو من الشرك. لأنها تقربٌ إلى الشياطين بما يحبون. فهي شرك في الربوبية من حيث ادعاء مشاركة الله في علمه. وشرك في الألوهية من حيث التقرب إلى غير الله بشيء من العبادة. وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد-صلى الله عليه وسلم ".
ومما يجب التنبيه عليه والتنبه له: أن السحرة والكهان والعرافين يعبثون بعقائد الناس بحيث يظهرون بمظهر الأطباء فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله- بأن يذبحوا خروفا صفته كذا وكذا أو دجاجة. أو يكتبون لهم الطلاسم الشركية والتعاويذ الشيطانية بصفة حروز يعلقونها في رقابهم أو يضعونها في صناديقهم أو في بيوتهم. والبعض الآخر يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات وأماكن الأشياء المفقودة. بحيث يأتيه الجهال فيسألونه عن الأشياء الضائعة فيخبرهم بها أو يحضرها لهم بواسطة عملائه من الشياطين- وبعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات كدخول النار ولا تؤثر فيه. وضرب نفسه بالسلاح. أو وضع نفسه تحت عجلات السيارة ولا تؤثر فيه. أو غير ذلك من الشعوذات التي هي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان يجرى على أيدي هؤلاء للفتنة. أوهي أمور تخيلية لا حقيقة لها بل هي حيل خفية يتعاطونها أمام الأنظار كعمل سحرة فرعون بالحبال والعصي- قال شيخ الإسلام في مناظرته للسحرة البطائحية الأحمدية (الرفاعية) قال: (يعني شيخ البطائحية) ورفع صوته: نحن لنا أحوال وكذا وكذا. وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها واختصاصهم بها. وأنهم يستحقون تسليم الحال إليها لأجلها- قال شيخ الإسلام: فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها. أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون ومن احترق فهو مغلوب. وربما قلت: فعليه لعنة الله- ولكن بعد أن تغسل جسومنا بالخل والماء الحار- فسألني الأمراء والناس عن ذلك. فقلت: لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع وقشر النارنج وحجر الطلق فضج الناس بذلك- فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نُلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت. فقلت فقم. وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك. فمد يده يظهر خلع القميص. فقلت: لا. حتى تغتسل بالماء الحار والخل فأظهر الوهم على عادتهم فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبا. أو قال حزمة حطب فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به مقصود. بل قنديل يوقد وأدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله أو قلت فهو مغلوب. فلما قلت ذلك تغير وذل- انتهى. والمقصود منه بيان أن هؤلاء الدجالين يكذبون على الناس بمثل هذه الحيل الخفية.[مجموع الفتاوى 11/ 465- 446].
الفصل الثالث
تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها
لقد سد النبي صلى الله عليه وسلم كل الطرق المفضية إلى الشرك وحذر منها غاية التحذير. ومن ذلك مسألة القبور فقد وضع الضوابط الواقية من عبادتها والغلو في أصحابها ومن ذلك:
ا- أنه قد حذر صلى الله عليه وسلم من الغلو في الأولياء والصالحين. لأن ذلك يؤدي إلى عبادتهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ".
2- وحذر صلى الله عليه وسلم من البناء على القبور- كما روى أبو الهيجاء الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لا تدع تمثالا إلا طمسته. ولا قبرا مشرفا إلا سويته). ونهى عن تجصيصها والبناء عليها.
عن جابر رضى الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر. وأن يقعد عليه. وأن يبنى عليه بناء).
3- وحذر صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور. عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه. فإذا اغتم بها كشفها. فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعواولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وان منكان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد،فإني أنهاكم عن ذلك ". واتخاذها مساجد معناه الصلاة عندها وان لم يبن مسجد عليها. فكل موضع قصد للصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا. كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلتلي الأرض مسجدا وطهورا" فإذا بني عليها مسجد فالأمر أشد.
وقد خالف أكثر الناس هذه النواهي وارتكبوا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فوقعوا بسبب ذلكفي الشرك الأكبر. فبنوا على القبور مساجد وأضرحة ومقامات. وجعلوها مزارات تمارس عندها كل أنواع الشرك الأكبر من الذبح لها ودعاء أصحابها والاستغاثة بهم وصرف النذور لهم وغير ذلك. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه. وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها. ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد. مضاهاة لبيوت الله. ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها ونهى عن أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر. وأمر بتسويتها- كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته). وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي: قال: (كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي. ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها) وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب- إلى أن قال: فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه. ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره- ثم أخذ يذكر تلك المفاسد- إلى أن قال: ومنها: أن الذي شرعه النبي كب عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار وسؤال العافية له. فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت. فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاؤه والدعاء به وسؤال حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له. انتهى.[إغاثة اللهفان 1/ 214- 215- 217]
وبهذا يتضح أن تقديم النذور والقرابين للمزارات شرك أكبر. سببه مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي يجب أن تكون عليها القبور. من عدم البناء عليها. وإقامة المساجد عليها- لأنها لما بنيت عليها القباب وأقيمت حولها المساجد والمزارات ظن الجهال أن المدفونين فيها ينفعون أو يضرون. وأنهم يغيثون من استغاث بهم ويقضون حوائج من التجأ إليهم فقدموا لهم النذور والقرابين. حتى صارت أوثانا تعبد من دون الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" وما دعا بهذا الدعاء إلا لأنه سيحصل شيء من ذلك في غير قبره صلى الله عليه وسلم وقد حصل في كثير من بلاد الإسلام أما قبره فقد حماه الله ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم. وإن كان قد يحصل في مسجده شيء من المخالفات من بعض الجهال أو الخرافيين. لكنهم لا يقدرون على الوصول إلى قبره صلى الله عليه وسلم. لأن قبره في بيته وليس في المسجد وهو محوط بالجدران - كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فأجاب رب العالمين دعاءه *** وأحاطه بثلاثة الجدران
الفصل الرابع
في بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية
التماثيل جمع تمثال- وهو الصورة المجسمة على شكل إنسان أو حيوان أو غيرهما مما فيه روح، والنصب في الأصل: العلم وأحجار كان المشركون يذبحون عندها. والنصب التذكارية: تماثيل يقيمونها في الميادين ونحوها لإحياء ذكرى زعيم أو معظم على صورهم.
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تصوير ذوات الأرواح. ولا سيما تصوير المعظمين من البشر كالعلماء والملوك والعباد والقادة والرؤساء. سواء كان هذا التصوير عن طريق رسم الصورة على لوحة أو ورقة أو جدار أو ثوب. أو عن طريق الالتقاط بالآلة الضوئية المعروفة في هذا الزمان. أو عن طريق النحت وبناء الصورة عاد هيئة التمثال. ونهى صلى الله عليه وسلم عن تعليق الصور على الجدران ونحوها. وعن نصب التماثيل ومنها النصب التذكارية. لأن ذلك وسيلة إلى الشرك. فانأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير ونصب الصور. وذلك أنه كان في قوم نوح رجال صالحون فلما ماتوا حزن عليهم قومهم فأوحى إليهم الشيطان أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد. حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت [رواه البخاري] ولما بعث الله نبيه نوحا عليه السلام ينهي عن هذا الشرك الذي حصل بسبب تلك الصور التي نصبت امتنع قومه من قبول دعوته وأصروا على عبادة تلك الصور المنصوبة التي تحولت إلى أوثان:(وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)وهذه أسماء الرجال الذين صورت لهم تلك الصور على أشكالهم إحياء لذكرياتهم وتعظيما لهم.
فانظر ما آل إليه الأمر بسبب هذه الأنصاب التذكارية من الشرك بالله ومعاندة رسله.مما سبب إهلاكهم بالطوفان ومقتهم عند الله وعند خلقه. مما يدلك على خطورة التصوير ونصب الصور. ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يومالقيامة. وأمر بطمس الصور. وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة. كل ذلك لأجل مفاسدها وشدة مخاطرها على الأمة في عقيدتها. فان أول شرك حدث في الأرض كان بسبب نصب الصور، وسواء كان هذا النصب للصور والتماثيل في المجالس أو. الميادين أو الحدائق. فانه محرم شرعا لأنه وسيلة إلى الشرك وفساد العقيدة. وإذا كان الكفار اليوم يعملون هذا العمل لأنهم ليس لهم عقيدة يحافظون عليها. فانه لا يجوز. للمسلمين أن يتشبهوا بهم ويشاركوهم في هذا العمل حفاظا على عقيدتهم التي هي مصدر قوتهم وسعادتهم.
الفصل الخامس
في بيان حكم الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته
الاستهزاء بالدين ردة عن الإسلام وخروج عن الدين بالكلية. قال الله تعالي: ( قل أبا لله و آياته ورسوله كنتم تستهزؤن. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). هذه الآية: تدل على أن الاستهزاء بالله كفر. وأن الاستهزاء بالرسول كفر وأن الاستهزاء بآيات الله كفر فمن استهزأ بواحد من هذه الأمور فهو مستهزئ بجميعها. والذي حصل من هؤلاء المنافقين أنهم استهزؤا بالرسول وصحابته فنزلت الآية. فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم فالذين يستخفون بتوحيد الله تعالى ويعظمون دعاء غيره من الأموات. وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا بذلك. كما قال تعالى:
(وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا . إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها).فاستهزؤا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك. ومازال المشركون يعيبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد. لما في أنفسهم من تعظيم الشرك. وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك لما عنده من الشرك. قال الله تعالى:(ومن الناس من يتخذ أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله)
فمن أحب مخلوقا مثل ما يحب الله فهو مشرك. ويجب الفرق بين الحب في الله والحبمع الله، فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبا ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبا. وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره أو غير قبره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر. ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد. وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرونالمشاهد. فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك. وهذا كثير وقوعه في القبوريين اليوم. والاستهزاء على نوعين:
أحدها: الاستهزاء الصريح كالذي نزلت الآية فيه وهو قولهم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا. ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين. كقول بعضهم: دينكم هذا دين خامس وقول الآخر: دينكم أخرق. وقول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: جاءكم أهل الدين، من باب السخرية بهم وما أشبه ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية.
النوع الثاني: غير الصريح وهو البحر الذي لا ساحل له- مثل الرمز بالعين. وإخراج اللسان ومد الشفة. والغمز باليد عند تلاوة كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (مجموعة التوحيد النجدية ص 409) . ومثل هذا ما يقوله بعضهم إن الإسلام لا يصلح للقرن العشرين وإنما يصلح للقرون الوسطى. وأنه تأخر ورجعية. وأن فيه قسوة ووحشية في عقوبات الحدود والتعازير. وأنه ظلم المرأة حقوقها حيث أباح الطلاق وتعدد الزوجات؟ وقولهم: الحكم بالقوانين الوضعية أحسن للناس من الحكم بالإسلام. ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد وينكر عبادة القبور والأضرحة: هذا متطرف. أو يريد أن يفرق جماعة المسلمين. أو هذا وهابي أو مذهب خامس. وما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين وأهله واستهزاء بالعقيدة الصحيحة ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن ذلك استهزاؤهم بمن تمسك بسنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون: الدين ليس في الشعر استهزاء بإعفاء اللحية- وما أشبه هذه الألفاظ الوقحة.
الفصل السادس
الحكم بغير ما أنزل الله
من مقتضى الإيمان بالله تعالى وعبادته الخضوع لحكمه والرضا بشرعه والرجوع إلى كتابه وسنة رسوله عند الاختلاف في الأقوال وفي الأصول وفي الخصومات وفي الدماء والأموال وسائر الحقوق. فان الله هو الحكم وإليه الحكم. فيجب على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله. ويجب على الرعية أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله في كتابه وسنة رسوله. قال تعالى في حق الولاة:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)
وقال في حق الرعية:(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فرده إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).
ثم بين إنه لا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فقال تعالى:
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا)إلى قوله تعالى:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)
فنفى سبحانه نفيا مؤكدا بالقسم الإيمان عمن لم يتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويرض بحكمه ويسلم له- كما أنه حكم بكفر الولاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله وبظلمهم وفسقهم قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).
ولا بد من الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه في جميع موارد النزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء. فلا يقبل منها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة من غير تعصب لمذهب ولا تحيز لإمام. وفي المرافعات والخصومات في سائر الحقوق لا في الأحوال الشخصية فقط كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام- فان الإسلام كل لا يتجزأ. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)
وقال تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)
وكذلك يجب على أتباع المذاهب أن يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب والسنة فما وافقهما أخذوا به وما خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيز. ولا سيما في أمور العقيدة فان الأئمة رحمهم الله يوصون بذلك- وهذا مذهبهم جميعا- فمن خالف ذلك فليس متبعا لهم وان انتسب إليهم. وهو ممن قال الله فيهم:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم). فليست الآية خاصة بالنصارى بل تتناول كل من فعل مثل فعلهم (فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله لعيه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله أو طلب ذلك اتباعا لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه. وان زعم أنه مؤمن. فان الله تعالى أنكر على من أراد ذلك وأكذبهم في زعمهم الإيمان. لما في ضمن قوله: (يزعمون) من نفي إيمانهم فان (يزعمون) إنما يقال غالبا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها. يحقق هذا قوله: (وقد أمروا أن يكفروا به) لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد. كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدا. والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بين في قوله:
(فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى). [فتح المجيد 467ـ 468]
ونفى الإيمان عمن لم يحكم بما أنزل الله يدل على أن تحكيم شرع الله إيمان وعقيدة وعبادة لله يجب أن يدين بها المسلم. فلا نحكم شرع الله من أجل أن تحكيمه أصلح للناس وأضبط للأمن فقط فان بعض الناس يركز على هذا الجانب وينسى الجانب الأول - والله سبحانه قد عاب على من يحكم شرع الله لأجل مصلحة نفسه من دون تعبد لله تعالى بذلك- فقال سبحانه:
(وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)فهم لا يهتمون إلا بما يهوون. وما خالف هواهم أعرضوا عنه لأنهم لا يتعبدون لله بالتحاكم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
حكم من حكم بغير ما أنزل الله
قال الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
في هذه الآية الكريمة أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر. وهذا الكفر تارة يكون كفرا أكبر ينقل عن الملة. وتارة يكون كفرا أصغر لا يخرج من الملة وذلك بحسب حال الحاكم فانه إن اعتقد ان الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان بحكم الله واعتقد أن غيره من القوانين والنظم الوضعية أحسن منه وأنه لا يصلح لهذا الزمان أو أراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاء الكفار والمنافقين فهذا كفر أكبر. وان اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا أصغر. وان جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور[شرح الطحاوية 363]. وهذا في الحكم في القضية الخاصة. وأما الحكم في القضايا العامة فانه يختلف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فان الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار. وان كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار. وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار. وهذا إذا حكم في قضية لشخص. وأما إذا حكم حكماعاما في دين المسلمين وجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا، ونهى عما أمر الله به ورسوله. وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة: (له الحكم وإليه ترجعون) (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) [مجموع الفتاوى 35/ 388].
وقال أيضا: ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر.فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر. فانه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل. وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم.بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف البادية(أي عادات من سلفهم) وكانوا الأمراء المطاعين ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكمبه دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر. فان كثيرا من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون. فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلابما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فإنهم كفار، انتهى [منهاج السنة النبوية]. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها. أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر وان قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل. فهذا كفر ناقل عن الملة [فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 12/280]. ففرق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقا وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلا منها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة وهذا لا شك أنه كفر أكبر يخرج من الملة ويناقض التوحيد.
الفصل السابع
إدعاء حق التشريع والتحليل والتحريم
تشريع الأحكام التي يسير عليها العباد في عباداتهم ومعاملاتهم وسائر شئونهم والتي تفصل النزاع بينهم وتنهي الخصومات حق لله تعالى رب الناس وخالق الخلق:(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)
وهو الذي يعلم ما يصلح عباده فيشرعه لهم. فبحكم ربوبيته لهم يشرع لهم. وبحكم عبوديتهم له يتقبلون أحكامه- والمصلحة في ذلك عائدة إليهم- قال تعالى:(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) وقال تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي)
واستنكر سبحانه أن يتخذ العباد مشرعا غيره فقال:(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)
فمن قبل تشريعا غير تشريع الله فقد أشرك بالله تعالى. وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات فهو بدعة. وكل بدعة ضلالة، قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". وما لم يشرعه الله ولا رسوله في السياسة والحكم بين الناس فهو حكم الطاغوت وحكم الجاهلية:
(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)
وكذلك التحليل والتحريم حق لله تعالى لا يجوز لأحد أن يشاركه فيه. قال تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)
فجعل سبحانه طاعة الشياطين وأوليائهم في تحليل ما حرم الله شركا به سبحانه. وكذلك من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله لقول الله تعالى:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي رضى الله عنه فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه. ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟". قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فتلك عبادتهم." فصارت طاعتهم في التحليل والتحريم من دون الله عبادة لهم وشركا وهو الشرك أكبر ينافي التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله [فتح المجيد 107]، فان من مدلولها أن التحليل والتحريم حق لله تعالى- وإذا كان هذا فيمن أطاع العلماء والعباد في التحليل والتحريم الذي يخالف شرع الله مع أنهم أقرب إلى العلم والدين، وقد يكون خطؤهم عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق وهم مأجورون عليه، فكيف بمن يطيع أحكام القوانين الوضعية التي هي من صنع الكفار والملحدين- يجلبها إلى بلاد المسلمين ويحكم بها بينهم- فلا حول ولا قوة إلا بالله. إن هذا قد اتخذ الكفار أربابا من دون الله يشرعون له الأحكام ويبيحون له الحرام ويحكمون بين الأنام.
الفصل الثامن
حكم الانتماء إلى المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية
1ـ الانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية وغيرها من مذاهب الكفر ردة عن دين الإسلام. فإن كان المنتمي إلى تلك المذاهب يدعي الإسلام فهذا من النفاق الأكبر. فان المنافقين ينتمون إلى الإسلام في الظاهر وهم مع الكفار في الباطن- كما قال تعالى فيهم: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن).
وقال تعالى: (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين)
فهؤلاء المنافقون المخادعون: لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم عن سره المكنون: (وإذا لقوا اللذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن)(1)
قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا أشرا واستكبارا. فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزءون:(الله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).
وقد أمر الله بالانتماء إلى المؤمنين:(يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
وهذه المذاهب الإلحادية مذاهب متناحرة لأنها مؤسسة على الباطل، فالشيوعية تنكر وجود الخالق سبحانه وتعالى وتحارب الأديان السماوية، ومن يرضى لعقله أنيعيش بلا عقيدة وينكر البدهيات العقلية اليقينية فيكون ملغيا لعقله، والعلمانية تنكر الأديان وتعتمد على المادية التي لا موجه لها ولا غاية لها في هذه الحياة إلا الحياة البهيمية؟ الرأسمالية همها جمع المال من أي وجه ولا تقيد بحلال ولا حرام ولا عطفولا شفقة على الفقراء والمساكين. وقوام اقتصادها على الربا الذي هو محاربة لله ولرسوله. والذي هو دمار الدول والأفراد- وامتصاص دماء الشعوب الفقيرة؟ وأي عاقل فضلا عمن فيه ذرة من إيمان يرضى أن يعيش على هذه المذاهب بلا عقلولا دين ولا غاية صحيحة من حياته يهدف إليها ويناضل من أجلها. إنما غزت هذه المذاهب بلاد المسلمين لما غاب عن أكثريتها الدين الصحيح وتربت على الضياع وعاشت على التبعية.
2- والانتماء للأحزاب الجاهلية والقوميات العنصرية هو الآخر كفر وردة عن دين الإسلام، لأن الإسلام يرفض العصبيات والنعرات الجاهلية يقول تعالى:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبيه، وليس منا من غضب لعصبية". وقال صلى الله عليه وسلم إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالأباء، ، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
وهذه الحزبيات تفرق المسلمين والله قد أمر بالاجتماع والتعاون على البر والتقوى ونهى عن التفرق والاختلاف- وقال تعالى:(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا).
إن الله سبحانه يريد منا أن نكون حزبا واحدا هم حزب الله المفلحون ولكنالعالم الإسلامي أصبح بعدما غزته أوروبا سياسيا وثقافيا يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية والوطنية ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقية مقررة وواقع لا مفر منه. وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعا غريبا إلى إحياء هذه العصبيات التي أماتها الإسلام والتغني بها وإحياء شعائرها والافتخار بعهدها الذي تقدم على الإسلام وهو الذي يلح الإسلام على تسميته بالجاهلية. وقد من الله على المسلمين بالخروج عنها وحثهم على شكر هذه النعمة.
والطبيعي من المؤمن أن لا يذكر جاهلية تقادم عهدها أو قارب إلا بمقت وكراهية وامتعاض واقشعرار. وهل يذكر السجين المعذب الذي يطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه إلا وعرته قشعريرة. وهل يذكر البريء من علة شديدة طويلة أشرف منها على الموت أيام سقمه إلا وانكسف باله وانتقع لونه [من رسالة: (ردة ولا أبا بكر لها) لأبي الحسن الندوي] والواجب أن يعلم أن هذه الحزبيات عذاب بعثه الله على من أعرض عن شرعه وتنكر لدينه كما قال تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض).وقال صلى الله عليه وسلم: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ." إن التعصب للحزبيات يسبب رفض الحق الذي مع الآخرين كحال اليهود الذي قال الله فيهم:(وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم).
وكحال أهل الجاهلية الذين رفضوا الحق الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تعصبالما عليه آباؤهم: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا).
ويريد أصحاب هذه الحزبيات أن يجعلوها بديلة عن الإسلام الذي من الله به على البشرية.
الفصل التاسع
النظرية المادية للحياة ومفاسد هذه النظرية
هناك نظرتان للحياة، نظرة مادية للحياة ونظرة صحيحة، ولكل من النظرتين آثارها.
أ- فالنظرة المادية للحياة معناها:
أن يكون تفكير الإنسان مقصورا في تحصيل ملذاته العاجلة ويكون عمله محصورا في نطاق ذلك، فلا يتجاوز تفكيره ما وراء ذلك من العواقب ولا يعمل له ولا يهتم بشأنه ولا يعلم أن الله جعل هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، فجعل الدنيا دار عمل وجعل الآخرة دار جزاء. فمن استغل دنياه بالعمل الصالح ربح الدارين ومن ضيع دنياه ضاعت آخرته: (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين)
فالله لم يخلق هذه الدنيا عبثا بل خلقها لحكمة عظيمة، قال تعالى:(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)[/fo